ا.د. حامد بن محمود إبراهيم صفراطه
2) التعصب الديني، وحب الغزو،
لقد كان الإسلام فريداً في التعامل مع الشعوب المقهورة، التي حكمت من قبل جبارين مستبدين، يؤلهون الحاكم صاحب السلطان المطلق، وطبقة من المنتفعين، أما من هم غير ذلك، فهم عبيد أذلاء، تستحل أعراضهم، ودمائهم وأموالهم.
ونلمح ذلك من كلمات هنا وهناك صدرت عن الفرس والروم، تعطي انطلاقا عما عاينه هؤلاء من القوات الإسلامية؛ فهذه شهادة حاشية يزدجرد بعد أن ضاقت عليه الأرض بما رحبت، وطُرد حتى تخوم بلاده، وأراد أن يأخذ أمواله ويهرب الى الصين، فقال له أصحابه وحاشيته: "مهلاً فإن هذا رأي سوء، (أي الهرب بماله إلى الصين) إنك تأتي قوماً في مملكتهم، وتدع أرضك وقومك! ولكن ارجع بنا الى هؤلاء القوم (يعنون المسلمين) فنصالحهم، فإنهم أوفياء، وأهل دين، وهم يلون بلادنا، وإن عدواً يلينا في بلادنا، أحب إلينا مملكة من عدو يلينا في بلاده، ولا دين لهم، ولا ندري ما وفاؤهم؛ هل يعقل أن هذه شهادة تقول بها حاشية، فقدوا سلطانهم، وعزهم وامتيازهم، يقولونها عن بدو لا هم لهم إلا السلب والنهب!!
فهذا حذيفة بن اليمان، (الدر المنثور ج7/ص476 أخرجه ابن أبي شيبة والحاكم وصححه) حذيفة الصحابي الجليل الذي قال: كان الناس يسألون رسول الله عن الخير، وكنت أساله عن الشر خشية أن أدركه!! هذا حذيفة يتزوج من العجم، بعد أن كثرت المسلمات منهم، وقد كان والياً للمدائن، فقال له عمر بن الخطاب : بلغني انك تزوجت من أهل المدائن، من أهل الكتاب، فطلقها!! فرد حذيفة: لا أفعل حتى تخبرني أحلال أم حرام، وما أردت بذلك؟
فكتب إليه عمر: لا بل حلال، ولكن في نساء الأعاجم خلابة، فإن أقبلتم عليهن غلبنكن على نسائكم!! أدرك حذيفة مقصود عمر؛ فقال: الآن، وطلقها!!
هل يفعل ذلك بدوي أراد السلب والنهب، وبالتأكيد الاستمتاع بالنساء!! أم يفعل ذلك قوم خرجوا لله وجاهدوا في سبيله!!
لقد كان تعامل المسلمين، كما قلت فريداً في معاملة الشعوب، فمن أسلم فله ما لهم، وعليه ما عليهم، ومن لم يسلم، لم يهتك عرضه، ولم يسرق ماله، ولم يكلف ما لا يطيق!!
وإن دافع عن بلاده ردت إليه الجزية، ومن دافع عن المسلمين كان له الغنم مثل المسلمين!!
ولقد كانت جيوش الفرس والروم، لا تراعي في الناس أية حرمة، بل ينتهكون الحرمات، ويغتصبون النساء، أمام ذويهم وأهليهم وأزواجهم، ومن رفض أو عارض قتل، ويسرقون الأموال والمتاع والأنعام، فهم كما قال قائلهم: عبيدنا؛ لا نمنع من إتيان نساءهم، ولا من أموالهم!! حتى أن رستم خطب فيهم وقال: والله للعرب في هؤلاء (أي أهل البلاد المستعمرين) وهم لهم ولنا حرب، أحسن سيرة منكم، إن الله كان ينصركم على العدو، ويمكن لكم في البلاد، بحسن السيرة وكف الظلم والوفاء بالعهود والإحسان، فأما إذا تحولتم عن ذلك الى هذه الأعمال (يعني الظلم والجبروت) فلا أرى الله إلا مغيراً ما بكم، وما آمن بأن ينزع سلطانه منكم.
لم يسجل التاريخ المكتوب، القديم منذ كتب هيرودس أول سجل تاريخ عرفته البشرية، حتى يومنا هذا في القرن الواحد والعشرين، فاتحين أعظم من المسلمين، فلم يكونوا طغاة متسلطين على الناس، ولكن دعاة إلا الله بأخلاقهم وسلوكهم، وفي حادثة فريدة؛ قبطي مصري وابنه، يسافران حتى مقر الخلافة في المدينة المنورة، ليشكوان حاكم مصر، وأن ابن الحاكم، عمرو بن العاص، ضرب ابنه وقال له: كيف تفوز على ابن الأكرمين!! والحادثة مشهورة معروفة، ولكننا نمر عليها مرور الكرام!!
أعني أن هذا الرجل لم يركب الطائرة، ولم يركب السيارات، بل سار على دابة أيام وليالي، لماذا يفعل ذلك!! إن لم يكن عنده يقين من أن الحاكم الأعلى للدولة، التي ترامت أطرافها من حدود الصين شرقاً، وحدود روسيا شمالاً، والهند جنوباً، وأفريقيا غرباً!! عنده يقين، أن الحاكم هذا سيوافق أن يراه، ويلتقي به، ابتداء!! من منا يستطيع أن يلتقي الحاكم؟؟ ثم بعد المرور من الحرس، والأسئلة القاسية من حاشية الحاكم، تلك الحاشية، التي يعلم هذا الرجل، الذي عاين استعمار الروم، وطغيان الفراعنة، أن يوصلوه الى الحاكم، بله أن يخاطبه، وقد أخبرهم إنما جاء يشكو رجلاً من وكلاء الحاكم، وقائد عبقري هزم الروم، وتولى حكم مصر!!
هل تترك الحاشية مثل هذا يشكو زميلهم ورفيق دربهم وابن قبيلتهم وزميل جهادهم!! هيهات هيهات!!
تلك الثقة في العدل المطلق، وأن الناس سواسية، وانكشاف ذلك لتلك الشعوب، التي عاينت الظلم والقهر، حتى تَكوَّن عندها ذلك اليقين أن الأمر الآن مختلف جد الاختلاف، وأن الحكم الجديد، حكم دين عظيم وخلق رفيع.
ويلتقي الحاكم الأعلى لهذه الإمبراطورية الكبيرة، ويجد الوقت للقاء مصري جاء بشكوى! لم يحيله للمساعد أو لأحد أعوانه!! ويحكم الحاكم الأعلى للدولة، ويستدعي حاكم مصر، ويقتص من ابنه ويقول قولته الشهيرة: "متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا!!".
إن الدارسين للحضارات والتاريخ الإنساني، مثل أرنولد توينبي و ول ديورنت؛ لم يسجلوا لنا قط، أن حضارة ما، جعلت عاصمتها في غير وطنها، حيث تحمي بيضتها، ويزود عنها أهلها بمهجهم وأرواحهم، إلا دولة الإسلام!! تنتقل عاصمة خلافتها حيث كان المسلمون أقوياء!! فتتحول الخلافة من مدينة رسول الله إلى دمشق، ومن دمشق الى بغداد، ومن بغداد الى مصر، ومن مصر الى الأندلس، ومنها إلى تركيا في اسطنبول!
وما هذا الا لأنها دولة عقيدة، فِكْرٌ من آمن به وتبناه فهو له، كانت الشعوب المسلمة تدعوا لخليفة المسلمين، أين كان مكانه أو جنسه!! اللهم انصر الإسلام والمسلمين، وانصر خليفة المسلمين!!